متفرقات

اللواء أحمد الحاج وعصر النهضة في قوى الأمن الداخلي (1977-1982)

المصدر: النهار

كان عهد اللواء أحمد الحاج، العصر الذهبي لقوى الأمن الداخلي، تجهيزاً وتدريباً وإنجازات بمكافحة الجريمة. ورغم الظروف الصعبة التي سادت، كان حازماً لكنه إنسانياً…

إثر مجزرة البوسطة في عين الرمانة يوم 13 نيسان (أبريل) 1975 وسقوط عشرات الضحايا، بدأت حرب السنتين بين ميليشيات الأحزاب اليسارية المدعومة من المنظمات الفلسطينية وميليشيات الأحزاب اليمينية المتعاونة مع الجيش اللبناني، وكانت جبهات: الشياح-عين الرمانة، طرابلس-زغرتا، والمخيمات الفلسطينية. سقط للقوى المسلحة الكثير من الضحايا، وانقسم الجيش بين جيش لبنان العربي، جيش اليرزة، الجيش العربي اللبناني وغير ذلك، وانعكس الأمر على قوى الأمن الداخلي المكلّفة الفصل بين المتحاربين، فكان الأمن الشعبي في العاصمة بإدارة الحركة الوطنية، ودرك لبنان العربي، والقسم الأكبر شرعي مرتبط بالمديرية العامة.

أصدر الرئيس إلياس سركيس (1976-1982) أول مراسيم العهد، وعيّن العقيد في الجيش اللبناني أحمد الحاج قائداً لقوات السلام العربية بتاريخ 4/11/1976، وهي الُمشكلة بنسبة 85% من الجيش العربي السوري؛ وكان اللواء السوري علي أصلان القائد العام لها.

تربط الرئيس سركيس بالعقيد الحاج صداقة وثقة وانتماء إلى مدرسة الرئيس الوطني اللواء فؤاد شهاب (1958-1964)، وكانا من فريق عمله، ويعرف قدرات العقيد العسكرية والوطنية منذ العقد السادس من القرن العشرين. عانى العقيد الحاج الكثير من صعوبة الإمرة على القوات، وطلب من الرئيس تكليف ضابط آخر بعد التعرف على مَن نفّذ محاولة اغتيال النائب ريمون إده، وتفجير مبنى جريدة المحرر في الشياح الموالية للعراق يوم 15/12/1976، حتى كان يوم 16 آذار (مارس) 1977، حين قُتل الزعيم كمال جنبلاط، وكان على خصومة قوية مع دمشق. ذهب الحاج إلى فخامة الرئيس، وأصر على ترك قيادة القوات العربية، حيث للقيادة السورية القرار الأول في إدارتها، وقال للرئيس: “إنني أفضل إمرة عسكريين لبنانيين اثنين على إمرتي لأكثر من ثلاثين ألف جندي عربي!”.

وافق الرئيس، وصدر قرار مجلس الوزراء برئاسة الدكتور سليم الحص، وعينه مديراً عاماً لقوى الأمن الداخلي، فيما عُين المقدم في الجيش اللبناني سامي الخطيب قائداً للقوات العربية بموجب المرسوم الرقم 103 تاريخ 14/4/1977.

طلب المدير العام الجديد، وهو القادم من المدرسة الشهابية الممتلئة انضباطاً ووطنية، من الرئيس أن تُطلق يداه في إدارة المؤسسة الأمنية من دون تدخّل السياسين والأحزاب، وسيباشر فوراً بإعادة تشكيلها وتجهيزها للقيام بمهامها المحددة قانوناً بخدمة الأمن اللبناني… فوافق الرئيس.

تسلم المديرية العامة من القاضي هشام الشعار، وباشر اختيار فريق العمل لدراسة الأوضاع الحقيقية لقوى الأمن الداخلي، التي تشكو من ضعف المعنويات (وجود أحزاب وميليشيات مسلحة نافذة)، ومن تعدّد الولاءات، وعدم توافر المال للتطويع والتجهيز والطبابة، ومن هزالة الراتب وغلاء المعيشة، ونفوذ وتسلط قيادات الجيش السوري العامل ضمن القوات العربية لحفظ السلام.

اختار فريق عمل أركانِه برئاسة العقيد الفذّ جوزاف مجاعص (رئيس هيئة أركان المديرية)، وضم الرائد أنطوان نصر (رئيس الشعبة الفنية: عمليات، تدريب، خدمة)، النقيب القيّم سامي منقارة (إدارة الأموال والتجهيز)، النقيب سمير الشعراني (للتخطيط والتنظيم) وآخرين. وضع خطة خمسية للتطويع والتدريب والتجهيز، بالتنسيق مع وزير الداخلية الدكتور صلاح سلمان، وكان النقيب القيّم الدكتور منقارة الساهر على تجهيز العناصر بالألبسة، والسلاح، والآليات، وتجهيز المخافر بالعتاد المطلوب لإقامة عناصر قوى الأمن بكرامة، من دون استعطاء البلديات والنافذين للتجهيز. وخلال سنتين تم استقدام: جيبات عسكرية للخدمة في المخافر، سيارات مدنية للتحري والاستقصاء، أسلحة وذخائر، فضلاً المحروقات الكافية وغير ذلك من العتاد.

سهِر على تطويع عناصر جديدة من الدرك والشرطة، واختار أفضل المدربين من الضباط والرتباء للتدريب في المعهد، ومنحهم حوافز عديدة: مخصصات مالية تشجعياً لبقائهم في ثكنات التدريب بعيداً من التعاطي مع المدنين، ترقيتهم بصورة مميزة، انتدابهم بمهام للسفر إلى الخارج للتعرف على أساليب متطورة للتدريب. وأذكر أنه كلفني بالإطلاع على أحدث تجهيزات المختبرات الجنائية في مكتب التحقيقات الفيديرالي الأميركي (FBI)، عندما انتدبني لمتابعة دورة أمنية متقدّمة لدى المكتب صيف 1980 في واشنطن، والسعي لشرائها لصالح الشرطة القضائية، وفقاً للأصول، بالتنسيق مع الملحق العسكري في السفارة اللبنانية العقيد أنطوان بركات.

كان صاحب شخصية قوية مكّنته من التصدي لأيّ سلطة أو صاحب نفوذ يحاول التدخل بتشكيلات الضباط وإقرار العقوبات الصارمة بحق الفاسدين، وبدعم مباشر من رئيس الجمهورية. وأصرّ على تنفيذ قرار المجلس التأديبي القاضي بوضع ملازم أول في وحدة الدرك في الانقطاع النهائي (الطرد)، ولم يرضخ لضغوطات السياسيين.

كان يجول على مختلف قطعات المديرية العامة (الدرك، شرطة بيروت، الشرطة القضائية) ويدون طلبات ومقترحات يسمعها ويتخذ القرار المناسب لمعالجتها بسرعة. وأذكر أنني التقيت به في مكتب الرائد أسعد ضاهر قائد سرية لبنان الجنوبي مع ضباط السرية، بنهاية جولته على مواقع انتشار قوات الطوارىء الدولية وتفقد المخافر، في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1979، وكنت أتولى مهام إمرة فصيلة درك النبطية ذات الخدمة الخطرة لتعرضها للقصف الدائم. استمع إلى مطالب الضباط، وعرضتُ عليه حالة صحية خطرة لابن رقيب رئيس مخفر جباع، حيث اقترحت اللجنة الصحية معالجته، إمّا في عمّان أو لندن، وتعذر ذلك لأسباب مالية. في اليوم التالي، اتصل بي النقيب ماضي، رئيس الديوان، وقال: بعد دراسة ملف الطفل، قرّر المدير العام إيفاده مع والديه للسفر إلى لندن والقيام بالعملية المطلوبة على حساب المديرية، وتم ذلك، وشفي الطفل، وظل الوالدان ينوهون بقرار اللواء الحاج.

رافقَت ولايته، كمدير عام، أحداثٌ وظروف خطرة، منها الاجتياح الإسرائيلي للجنوب 1978، ثمّ مقتل الوزير طوني فرنجية 13/6/1978، ثمّ اجتياح آخر وصل حتى العاصمة 1982، واستشهاد الرئيس بشير الجميل 14/9/1982، وما رافقه من مجازر في مخيمي صبرا وشاتيلا. وقد تأثرت قوى الأمن الداخلي كثيراً لجهة تنفيذ المهام المكلفة بها. كان القائد الساهر دوماً لرعاية العناصر بمختلف الرتب، يزورهم ويتفقدهم ويزرع فيهم الأمل بقرب نهاية الأزمة، ويصطحب معه كبار القادة للمعالجة الفورية لبعض الصعوبات.

منح شرطة الفرقة 16 وسام الحرب تكراراً، تقديراً لتصدّي قائدها المقدم عصام أبو زكي ورجاله للعدو الإسرائيلي ومنعهم من اقتحام الثكنة 1982. تعرّف على مهام قوى الأمن الداخلي بسرعة، وحرص على تطبيق مبدأ الثواب والعقاب بوجه الجميع، بمعزل عن الانتماء السياسي أو الطائفي.

استحدث لقوى الأمن الداخلي عيدها الوطني يوم 9 حزيران (يونيو) من كل عام، أسوة بعيد الجيش، وارتفع نُصب الشهيد لأول مرة في باحة ثكنة المقر العام لقوى الأمن الداخلي، وكانت الاحتفالات تُجرى في محيطه.

كان عهد اللواء أحمد الحاج العصر الذهبي لقوى الأمن الداخلي، تجهيزاً وتدريباً وإنجازات بمكافحة الجريمة. ورغم الظروف الصعبة التي سادت، كان حازماً لكنه إنساني، ذا هيبة وسلطة بوجه المخالفين المدعومين. حصّن قوى الأمن الداخلي بوجه التدخلات الخارجية. لم يُقصّر أبداً في دعم المؤسسة وعناصرها بشتى الظروف.

عاد إلى الجيش اللبناني بتاريخ 16/12/1982، وسلّم المديرية إلى سلفه القاضي هشام الشعار، ومن أبرز ما قاله في خطاب التسلم والتسليم:
-خدمتي في قوى الأمن الداخلي من أهم مراحل الخدمة العسكرية.
-النجاح لا يتحقق إلا بترسيخ الإيمان بلبنان بعد الله، والعمل بروح الفريق الواحد.

كرمه اللواء إبراهيم بصبوص، المدير العام، بإطلاق اسمه، على قاعة المحاضرت في ثكنة عرمون، التي تضم معهد قوى الأمن الداخلي وقطعات أخرى، تقديراً ووفاءً.
سيبقى اللواء أحمد الحاج مثالاً وأنموذجاً ساطعاً للمدرسة الشهابية الخلاّقة، التي قدمت للوطن أفضل القادة؛ وإن غابت أجسادهم فإن إنجازاتهم باقية إلى الأبد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى